الأحد، 18 ديسمبر 2022

"العين" كسبب للمرض النفسي بين إنكار الأطباء وظنون الرقاة ودجل الأفّاكين

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن العين حق : "الْعَيْنُ حَقٌّ، ولو كانَ شيءٌ سابَقَ القَدَرَ سَبَقَتْهُ العَيْنُ، وإذا اسْتُغْسِلْتُمْ فاغْسِلُوا" رواه مسلم ، أي أنها تقع ويحصل بسببها الأذى والمرض ، ومع كونها حقاً إلا أنها لا تسبق القدر ، فهي لا تقع إلا بإذن الله وتقديره ، وإذا طُلب من الإنسان (العائن) أن يغسل جسمه بالماء بحيث يتمسح أو يغتسل به المصاب بالعين فلا يمتنع .

لم يرد في الأحاديث الصحيحة وصف علامات وأعراض إذا ظهرت على المريض النفسي فإنها تدل على العين ، وإنما جاءت الإشارة إلى قرينة تدل على العين كسبب للمرض عموماً : روى الإمام مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه قال: اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار (مكان معروف قرب الجحفة)، فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهل رجلاً أبيض حسن الجلد، قال: فقال له عامر بن ربيعة : ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء (أي كأن بشرته بشرة الفتاة العذراء حسناً وصفاءً) ، قال: فوعك سهل مكانه، واشتد وعكه، فأُتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبر أن سهلاً وعك، وأنه غير رائح معك يا رسول الله ، فأتاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركت (يعني ألا دعوت له بالبركة)؟! إن العين حق، توضأ له"، فتوضأ له عامر (وصب الماء المتناثر من وضوئه على سهل)، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس (شُفي مباشرة) .

القرينة هي حصول الأذى والمرض بعد إعجاب البعض بنعمةٍ ظاهرة على المصاب ولم يدع له بالبركة . 

خلال السنوات الأولى من إصابتي بالاكتئاب والقلق كان موضوع العين حاضراً في ذهني وذهن من حولي . أنا لست ممن يبالغ في التوجس من العين ، وأعتقد أن أكثر ما ينسبه الناس للعين ليس صحيحاً ، ولكني أؤمن أنها حق ، وأن علاجها الحسي هو الماء الذي يتوضأ به العائن ، أو أثر آخر من بقايا أكله ، وعلاجها الروحي هو الرقية فيرقي المصاب نفسه وهو الأفضل أو يرقيه غيره . عرض علي بعض أقاربي الصالحين رقيةً مطولة فرقاني أحدهم أربعين يوماً متتالية ، ثم رقاني آخر ثلاثة أسابيع ، وإذا رأيت شخصاً في منامي أخذت من أثر طعامه (خصوصاً نوى التمر) دون علمه حتى لا أثير الشكوك والضغائن . فعلت ذلك ثلاث مرات ، ولم أشعر بتحسن . رقيت نفسي بسورة البقرة كاملة يومياً لأكثر من شهرين شعرت خلالها بتحسن جيد ثم انتكست الأعراض وأنا مستمرٌ في قراءتها ، وأصبحت القراءة صعبةً علي (وهو عرض من أعراض الاكتئاب المتوسط والشديد) فتوقفت .

تعارف الناس على أخذ الأثر من العائن المحتمل إذا سمعوا منه كلمات الإعجاب ، أو رآه المريض في منامه خصوصاً بعد الرقية ، وفي هذا الشأن حصل الخلاف الشديد بين الأطباء والرقاة ، كما تفاوت تطبيق الناس لهذه الإجراءات تفاوتاً عجيباً ، ووقعت أخطاء ومبالغات حصل بسببها الخلاف والشحناء وشوهت مبدأ العين .

درست موضوع العين أكثر فقرأت شروح الأحاديث وكلام العلماء، واطلعت على وجهة نظر الأطباء النفسانيين والرقاة ، كما اطلعت على ما يروج له أدعياء العلاج الروحي من السحرة والدجالين.

 

الخلاصة التي خرجت بها :

- العين سبب غير محسوس للمرض النفسي ، وليست مرضاً نفسياً مستقلاً ، فقد يكون سبب الاكتئاب مثلاً العين ، ولا يُقال : هذه عين وليس مرض اكتئاب !

- ليس للعين علامات خاصة تدل على أنها سبب المرض النفسي .

- يكتفي المؤمن بالأوراد (أذكار الصباح والمساء + قول "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" كلما رأى من نفسه تميزاً في مظهره أو أدائه + تعويذ الأهل والأطفال بتعويذ النبي صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين "أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة") ثم لا يلتفت إلى ما يقوله الناس ، ولا يشغل باله بأي عارضٍ يعرض له : هل هو عين ؟ بل يتوكل على الله ويعالج العوارض بالعلاج المناسب) .

- إذا توفرت قرينة واضحة كالمرض النفسي بعد كلمة إعجاب فلتت من صاحبها دون دعاءٍ بالبركة ، فيطلب من العائن المحتمل أن يتوضأ له ويعطيه الماء ، فإن خشي من إثارة الضغائن والخلاف فليأخذ من أثره دون علمه ، والحمد لله .

- الأخذ من أثر المعازيم والضيوف في المناسبات يكرره البعض وينصح به دوماً، وامتهنه بعض "القهوجية" . قد يكون هذا السلوك علامة على الوسواس ، كما ساهم في تشويه مفهوم العين وعلاجها.

- أكثر المنامات التي يراها المريض النفسي "حديث نفس" ، فعندما يرقيه الراقي مثلاً ويخبره أنها عين وسيرى عائنه في المنام ، يحدث المريض نفسه كثيراً بهذا الأمر ، ويحاول تذكر المواقف والأشخاص المحتملين ، وبالتالي طبيعي جداً أن يرى في منامه تلك الأحداث وأولئك الأشخاص بصور مختلفة ، فالأمر ظني غالباً وليس يقيناً مؤكداً . بالمقابل قد تتكرر رؤية المريض في منامه شخصاً دون أن يفكر فيه أثناء اليقظة ، فهذه تزيد قوة الظن لكنها لا تؤكده ولا تقلبه يقيناً ، وخلال مرضي تمر بي فترات أرى أشخاصاً كثيرين في منامي دون التفكير بهم قبل النوم ، ولا يمكنني حصر أولئك الأشخاص لكثرتهم . المرض النفسي يصاحبه رؤية طيف واسع من المنامات والأشخاص ولا ينبغي التعويل عليها كثيراً . المقصود أن المريض إذا شك في العائن المحتمل وقوي الشك فالأفضل أن يأخذ من أثره دون علمه تجنباً للإحراجات والضغائن ، وألا يكرر ذلك مع كل شخصٍ يراه في المنام .

  - بعض المرضى يُشفى فعلاً بعد أخذه من أثر العائن بدون أدوية نفسية ، وبعض الذين يعتقدون أنها عين لا يُشفون بعد الرقية والأخذ من أثر العائن المحتمل وإنما يُشفون بعد التداوي في العيادة النفسية . 

- الكثير من حالات العين مصدرها ليس بعدو حاسد ، بل قد تكون من قريب محب رأى ما يعجبه ولم يدع بالبركة.

- أفضل طريقة لعلاج المرض النفسي ولو كان بسبب العين هي مراجعة الطبيب النفسي ، ويرقي المريض نفسه ، وإذا توفرت قرينة على احتمالية العين أخذ من أثر العائن المحتمل دون علمه ودون أن يحقد عليه لأن الأمر كله ظن .

- الرقية سبب شرعي للشفاء ودعاءٌ مبارك ، ولا يلزم أن يحصل الشفاء بها ، بل ينطبق عليها ما ينطبق على الدعاء؛ فإما الشفاء العاجل أو ادخار أجرها وبركتها للمريض في الآخرة أو اندفاع مثلها من الشر عن المريض . يخطئ البعض فهم كلام الإمام ابن القيم رحمه الله بحصول الشفاء بالقرآن إذا اقترن باليقين ، ويجزمون بذلك عندما ينصحون غيرهم ، وينسون حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن إجابة الدعاء تعني أحد ثلاثة أمور كما ذكرنا . إجابة الدعاء (ومنه الرقية) لها معنيان : الأول معنى عام وهو القبول أي قبول الله سبحانه للدعاء وحصول إحدى الثلاث مع حصول فوائد كثيرة وعظيمة للداعي في دينه وصلاح قلبه ، والثاني معنى خاص وهو تحقق المنصوص عليه في الدعاء . إجابة الدعاء بأحد المعنيين تحصل قطعاً لمن دعا وهو موقنٌ بالإجابة ، فلا يليق أن يزهد المؤمن في الدعاء بالشفاء أو أن يزهد غيره ، بل يدعو ويكثر قدر استطاعته وحسب حاله دون أن يشق على نفسه .


 إنكار الأطباء والمعالجين النفسيين

 الكثير من الأطباء والمعالجين النفسانيين ينكرون العين وأثر الرقية في الشفاء عملياً (ولو اعترفوا بها نظرياً) ، ومن مظاهر الإنكار : 

- لا تجد حالة اعترفوا بالعين كسبب لها !

- يرددون " من الخطأ تفسير كل مرض نفسي بالعين " كل ما ذكرت العين .

- يركزون على سلبيات الاعتقاد بالعين ، والممارسات الخاطئة لبعض الرقاة والمرضى وذويهم ، ولا ينتبهون لنسبة المرضى الذين ينقطعون عن عيادتهم النفسية بسبب الأعراض الجانبية للأدوية ، وعدم الاستجابة لها  (أكثر من 22 % في بعض الدراسات -رابط - )!

- يرددون " ثابت طبياً أن بعض المرضى يُشفون بدون تدخل علاجي ، وإنما كان مرضهم النفسي عارضاً مؤقتاً ، فالمريض الذي يُشفى بعد الرقية وأخذ أثر من العائن هو من تلك المجموعة لكن توافق أن شفاءه حصل بعد الرقية فاعتقد هو ومن حوله أنها سبب الشفاء"، ولا يقولون مثل ذلك عندما يُشفى المريض بعد العلاج في العيادات النفسية ! 

- يرددون " مهم الجمع بين العلاج الديني والعلاج الطبي" إذا سُئلوا عن الرقية ، ولا يذكرون هذا الجمع المهم عندما لا يُسألون عنها ، بل يكتفون بالعلاج الطبي !

- نأمل من أطبائنا المسلمين أن يحملوا موضوع العين والرقية محمل الجد بالدراسة والبحث الإيجابي بدلاً من الوقوف دوماً في خانة الإنكار ونقد الممارسات السلبية .

- لقد تقبل الغرب فكرة "العقل الباطن" التي نشرها فرويد (وكانت موجودة قبله) لتفسير الكثير من الاضطرابات النفسية ، وتقبلها أطباؤنا تبعاً لهم مع أنه غير مرئي ولا محسوس ولا يمكن قياسه ، ولما ظهرت المدرسة النفسية السلوكية وانتقدت الكثير من أطروحات فرويد المرتبطة بالعقل الباطن هب تلاميذ مدرسة التحليل النفسي الفرويدية لإثبات وجود العقل الباطن وتأثيره العميق من خلال دراسات منهجية طويلة الأمد حتى خرجوا بالعديد من أساليب العلاج النفسي المبنية على التحليل النفسي الفرويدي ، وإن لم ينجحوا في إثبات كل ما قاله فرويد لأن بعض ما قاله لا يمكن إثباته ولا يقبله العقل السوي ولا الفطرة السليمة !

- أليس في أطبائنا المسلمين من يغار على حديث النبي صلى الله عليه وسلم "العين حق" وأحاديثه المستفيضة في الرقية أكثر من غيرة تلاميذ فرويد على نظرياته ؟!. الأطباء والمعالجون النفسيون هم أفضل من يدرس العين والرقية في المجال النفسي بأسلوب علمي ينفع الناس ويقلل التخبطات ويقطع الطريق على كلٍ من محتقري الدين وتجار الرقية .

- درس الأطباء والمعالجون النفسيون الغرب أثر اليوقا المستفادة من الديانات الهندية القديمة، وأثبتوا فعاليتها بعد أن جردوها من الاعتقاد الديني وحولوها إلى أنشطة تأمل واسترخاء (رابط حصيلة الدراسات) . لم تكن تلك الدراسات لتظهر لولا انفتاحهم على فكرة اليوقا ودراستها جدياً بشكل إيجابي وعدم الاكتفاء بإنكارها لمجرد أن أساسها ديني . 

- يخاف بعض الأطباء من وضع مصداقية الوحي على طاولة البحث العلمي ، وهذا الخوف سيزول باستحضار اليقين بصدق الوحي والبدء في البحث الإيجابي المتأني لإثبات آثار العين والرقية في الواقع ، كما أن الحديث الصحيح "ما من مسلمٍ يدعو بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ، ولا قطيعةُ رَحِمٍ ؛ إلا أعطاه بها إحدى ثلاثَ : إما أن يُعجِّلَ له دعوتَه ، وإما أن يدَّخِرَها له في الآخرةِ ، وإما أن يَصرِف عنه من السُّوءِ مثلَها . قالوا : إذًا نُكثِرُ . قال : اللهُ أكثرُ" يحل الإشكال إذا لم ير المريض الشفاء بعد الرقية .


ظنون الرقاة

لاحظت اهتمام الرقاة بعلامات يعتبرونها دليلاً على العين لدى مرضى الاكتئاب والقلق كشحوب اللون والصداع والدوخة والكسل عن المهام المعتادة والخفقان والرعشة.. وغيرها ، ويستدل بعضهم على العين أثناء الرقية بحصول النعاس أو الغثيان والاستفراغ أو زيادة التعب وضيق الصدر.. ، وهي علامات ظنية لا دليل عليها من نصوص الوحي ، كما أنها هي ذاتها أعراض اضطراب الاكتئاب والقلق ، حتى التي تكون أثناء الرقية لأنهم يشعرون بها أيضاً حينما يتحدثون عن مشكلتهم مع الطبيب النفسي وأثناء جلسات العلاج السلوكي والمعرفي !،  وغالبية المرضى الذين يتحسنون بالعلاج الطبي في العيادات النفسية كانوا يشعرون بها بدرجات متفاوتة.

- يتكلم بعض الرقاة مع المرضى وفي وسائل التواصل عن تشخيص العين بثقة كبيرة ، وهو أحد أسباب تصديق الناس لتلك الظنون ، وكما قيل "كن واثقاً مما تقول يصدقك الناس" .

- يورط بعض الرقاة مرضاهم بتشخيص "عين خبيثة قوية" أو "سحر" لأن نتائج هذا التشخيص وخيمة على أغلب المرضى ، فبسببه يُصابون باليأس من الشفاء ، ويتركون التداوي ، ويستسلمون للمرض . كما تحصل البغضاء والشحناء وقطيعة الأرحام والتصرفات الانتقامية ورفع الدعاوى القضائية بينهم وبين من يظنونهم السبب .

- زادت البلية بتجار الرقية ، وهم فئة قليلة لكنها ليست نادرة ، امتهنوا الرقية للكسب والكسب فقط ، لا يتورعون عن المبالغة المضللة ونشر القصص المكذوبة بنجاح رقيتهم في علاج العين والحسد والسحر، وبعضهم لا يُؤمَن على العرض والمال ، وقد عاصرت خلال حياتي عدداً منهم ألقت الجهات الأمنية القبض عليهم بسبب ثبوت ممارستهم للفواحش مع المرضى واحتيالهم على أموالهم . 

 - الشيء المطمئن هو وجود جيلٍ واعٍ من الرقاة ، يخافون الله في مرضاهم (ولا يمنع ذلك من الكسب وأخذ الأجرة) ، يعرفون قيمة الطب النفسي ويحيلون مرضاهم للأطباء للتشخيص والتداوي . يرقون مرضاهم رقية ً شرعية بما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويحثونهم على العمل الصالح والصبر والاحتساب ، ويعلمونهم كيف يرقون أنفسهم ، ويرفعون معنوياتهم ويفسحون لهم الأمل وحسن الظن بالله وبمن حولهم ، ويكتفون بالإرشادات العامة حول الوقاية من السحر والعين  .


دجل السحرة والمشعوذين

كثروا لا كثرهم الله في وسائل التواصل وعلى القنوات ، يتسمون بالمعالجين الروحانيين ، يتظاهرون بالعلم والنصح ، ويدعون علم الغيب ، يخلطون قليلاً من الرقية الشرعية بكثيرٍ من الدجل والطلاسم وطاقة النجوم والأبراج ووحي الشياطين . لهم أعوان من شركائهم وخدامهم ينتحلون أسماءً وهمية ويروجون لهم في وسائل التواصل مدعين أنهم مرضى شُفوا على أيديهم ، فكم انخدع بهم الكثير ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . 

- ما قيل في تجار الرقية يُقال عنهم ، ويزيدون عليهم بإفساد العقيدة والتوحيد ، فهم باب واسع للشرك .

- منهم كهان يسمعون الكلمة من الشياطين الذين يسترقون السمع في السماء عن بعض أمور الغيب ، فيتكلمون بها بين الناس ويزيدون عليها مئة كلمة زوراً واتجاراً ، فإذا وقع ما يصادف الكلمة التي قالها صدقه البسطاء والسذج وغفلوا عن المئة التي كذبها . 

- من عرض نفسه عليهم من مرضى الاكتئاب والقلق شخصوه بالمس الشيطاني أو السحر ، ثم سرقوا ماله بالأحراز والأوراد والطقوس العلاجية التي يقدمونها .

- يتفق أن يحصل الشفاء لبعض المرضى بعد علاجهم ، وهذا قدر قدره الله امتحاناً واختباراً لهم ، فإن حمدوا الله على الشفاء وعرفوا شناعة ذنبهم بإتيان السحرة فاستغفروا وتابوا كان خيراً لهم ، وإن نسبوا الفضل للسحرة فقد فتنوا أنفسهم وفتنوا غيرهم وضللوهم .

***


اللهم اهدنا سواء السبيل واشف مرضانا ومرضى المسلمين 

    

 

الخميس، 15 ديسمبر 2022

تجربتي كمتدين مع اضطراب الاكتئاب والقلق



من نعم الله علي نشأتي في أسرة متدينة ومستقرة.


استغربت الأعراض "كيف أشعر بكل هذا الضيق والقلق، والله يقول: ألا بذكر الله تطمئن القلوب؟!"

ظهر اكتئابي في شكل زهد في الدنيا، وعدم التداوي في شكل توكل على الله، وفسرت ضيقة صدري بقسوة القلب!

- زادت المعاناة بعدم التحسن مع الصلاة والأذكار التي يفترض أن تعالج الهم وقسوة القلب، ثم تطور الأمر للشعور بالقنوط من مغفرة الذنوب السابقة (وهو عرض من أعراض الاكتئاب والقلق).

أتألم حين أقرأ "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا" حيث يستشهد بها بعض الوعاظ وهم يتحدثون عن سبب الضيق والغم.

- تغيرت نظرتي بفضل الله حين سمعت كلام الفقهاء الراسخين (وليس الوعاظ)، وجلست مع الأطباء.

أدركت أن الصالحين أيضا تصيبهم الأمراض النفسية ومنهم بعض الأئمة السابقين، فقد ابتلي بالوساوس الإمام ابن دقيق العيد والقاضي ابن يونس الموصلي والإمام المحدث الشهاب محمد بن خلف (موقع الألوكة).

- كان الإمام الفضيل بن عياض دائم الحزن الشديد، ولا يمكن أن يكون الحزن بحد ذاته عبادة يتقرب بها إلى الله.

عرفت شخصياً بعض الدعاة وطلبة العلم عانى من الاكتئاب الشديد حتى إنه لا يستطيع قراءة القرآن لعدة أشهر!

روى الإمام مالك في الموطأ قصة فقيه حزن بشدة (أعراض اكتئاب) بعد وفاة زوجته



- اقتنعت أن الاكتئاب والقلق مرض له عدة أسباب يذكرها الأطباء (وراثية، اضطراب النوم، نمط التفكير، صدمات طفولة..) وأسباب غير محسوسة لا يؤمن بها الطب الحديث لكنها حق (العين والسحر)، ومهما كان السبب فعندي أن الخطة العلاجية واحدة:

توجيه الطبيب والمعالج النفسي+ أدعو الله وأرقي نفسي+ أصبر وأرضى .


- فرحت جدا بكلام وجدته لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"وكما أن أمراض الجسم ما إذا مات الإنسان منه كان شهيدا، كالمطعون والمبطون وصاحب ذات الجنب وكذلك الميت بغرق أو حرق أو هدم ; فمن أمراض النفس ما إذا اتقى العبد ربه فيه وصبر عليه حتى مات كان شهيدا.." الفتاوى ١٠ /١٣٨ - ١٣٩



- أدركت أن الزهد والتوكل الشرعي الصحيح يصاحبه انشراح في الصدر وطمأنينة حقيقية (ليست مفتعلة) ومراعاة لهدي السنة النبوية في النفقة على النفس والأهل، أما الزهد والتوكل الاكتئابي فيصاحبه ضيق صدر وحزن مستمر وتصرفات مالية واجتماعية ضارة بالنفس والأهل كالعزلة والمجازفة بإخراج المال.

- عرفت أن الاكتئاب والقلق يعالج بالأدوية الكيميائية، كما يعالج بالدعاء والرقية ، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال عن طعام التلبينة : "تذهب ببعض الحزن" وقال: "لِكُلِّ داءٍ دَواءٌ، فإذا أُصِيبَ دَواءُ الدَّاءِ بَرَأَ بإذْنِ اللهِ عزَّ وجلَّ".

بعض الاضطرابات النفسية سببها خلل كيميائي.


- عرفت أني إذا سألت الله الشفاء أو رقيت نفسي بالأدعية النبوية بصدق؛ ضمنت إحدى ثلاثٍ :

- الشفاء العاجل، أو تأجيل الشفاء ويدفع الله عني شرورا بقدر ما أدعو (أدعو أكثر فتندفع عني وعن أحبابي شرور أكثر)، أو تأجيل الشفاء ويدخر الله دعواتي في الآخرة (أدعو أكثر فتعلو منزلتي أكثر) . 



- المتدين يعاني ضغوط الحياة التي يعانيها الآخرون، ويزيد عليهم بالضغط النفسي الناتج عن انتشار المنكرات، وهم الإصلاح وتربية الأولاد في هذا الزمن الصعب، وإذا كان مرهف المشاعر أو مثالي التفكير والأهداف تضاعفت همومه، وصار معرضا للاكتئاب والقلق كغيره من الناس.


- عرفت معنى "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا" كما فسرها عددٌ من الصحابة رضي الله عنهم بأنه الذي يعرض عن القرآن فلا يؤمن به ولا يتبعه، يعذب في القبر بالضنك وهو الضيق والعذاب إلى يوم القيامة (تفسير البغوي)

- عرفت معنى "ألا بذكر الله تطمئن القلوب": المؤمن إذا ذكر الله أو قرأ القرآن اطمأن قلبه أن الله موجود واحد لا شريك له، وأن القرآن كلام الله ، وأن وعده حق، فيرجوه ويصبر على البلاء.

أما المشركون: "وإذا ذُكِر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ۖ وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون"


- الاكتئاب ليس قسوة قلب !!

علاج قسوة القلب الإكثار من الصلاة والذكر والقرآن، أما مريض الاكتئاب والقلق فيقال له كما قال الله للمرضى "فاقرأوا ما تيسر منه"، وإلزامه بالإكثار خطأ وله آثار عكسية لأنه يشق عليه خصوصاً إذا كان الاكتئاب والقلق من الدرجة المتوسطة والشديدة. 

إذا قرأ ما تيسر (لو ثلاث آيات فقط) وقت الضيق والتعب وفقه الله للإكثار وقت الانشراح والعافية.  ننصح المريض أن يبدأ باليسير الذي لا يشق عليه من الرقى والقرآن والأذكار ويحمد الله الذي وفقه لذكره مهما كان يسيراً ثم يزيد قدر استطاعته . وإذا كان الاكتئاب من الدرجة الخفيفة ووجد المريض راحةً مع القرآن والذكر فليغتنم هذه النعمة وليكثر كيف شاء .


صرت مع نوبات الاكتئاب الشديد أقرأ آية واحدة فقط أو ثلاث آيات من المصحف ، وأردد بعض الأذكار المنصوص على فضلها مرة واحدة إلى ثلاث مرات، وإذا كانت النوبة متوسطةً قرأت وجهاً أو ثمناً من المصحف ، وأردد الأذكار عشر مرات . ولما فرج الله عني وتحسنت حالتي كثيراً السنتين الماضيتين أتممت حفظ القرآن ، وصرت أردد الأذكار مئة مرة .


يخطئ بعض الناصحين وفقهم الله حين يقترح على مريض الاكتئاب والقلق والوساوس ذكراً معيناً بعدد كبير، ثم يؤكد له أنه سيشفى إذا التزم به بشرط أن يكون واثقاً بالله موقناً بأثر الرقية ، لأن في ذلك عدة إشكالات : الاكتئاب المرضي ليس قسوة قلب تعالج بكثرة الذكر ، والمرضى لا يقال لهم "أكثروا" لأن الإكثار مشقة ، بل يقال لهم "ما تيسر"، والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد المرضى إلى عدة أدعية يرقون بها أنفسهم يكررونها إما ثلاث مرات أو سبع فقط ، ولم يأمرهم بتكرارها مئات أو آلاف المرات كما يطالب بعض الناصحين، وإذا تحامل مريض الاكتئاب على نفسه ونفذ وصية الناصح ثم لم ير الشفاء مباشرةً (لحكمة يريدها الله) رجع على نفسه باللوم والتهمة "أنا لم يشفني الله لأني لا أثق به وإيماني ضعيف، ولا أستحق أن يشفيني ولا أن يغفر لي.." ، وقد شعرت بهذه المشاعر عدة مرات بعد تنفيذي لمثل تلك النصائح! 

 - الحزن والهم والغم أنواع ، وليست كلها شيطانية كما يعتقد البعض ، فحزن يعقوب عليه السلام على يوسف ليس من الشيطان، ولا يجرؤ مؤمن على القول بأن يعقوب لم يكن قوي الإيمان كثير الذكر لله فاستمر حزنه الشديد وبكاؤه الذي أفقده بصره !! حاشاه عليه السلام ، بل الرسل عموماً هم أكمل الناس إيماناً وأكثرهم  معرفةً وثقةً بالله وذكراً له سبحانه، كان حزنه عليه السلام حزناً بشرياً بسبب الفقد ، وشفاه الله بريح يوسف وقميصه .

مرض الاكتئاب عبارة عن حزن وهم مستديم أسبابه متعددة كما ذكرنا .

الذنوب والمعاصي سببٌ للبلاء والضيق ، ومن رحمة الله بعبده المؤمن أن يبتليه بعد الذنب ليرجع إليه ، وليطهره من ذنبه ، فليس البلاء الذي يصيب المؤمن بعد الذنب علامةً على بغض الله لعبده .. لا .. هذا من وسوسة الشيطان ليوقعه في القنوط وترك العمل الصالح . المؤمن يعترف بذنبه ويسأل الله العفو والمغفرة والشفاء والهداية والثبات ، ثم يبذل الأسباب بالتداوي ويتفاءل بالخير ويحسن الظن بسعة رحمة الله ومغفرته . 


- اقتنعت أن الله سبحانه يكتب الشفاء من الاكتئاب والقلق بأسباب شرعية (دعوة من المريض أو غيره، رقية، صدقة) أو أسباب مادية (دواء كيميائي، جلسات نفسية، رياضة) أو بهما معا.

كلها أسباب مشروعة نحن مأمورون باتخاذها ، ولا يلزم تحقق الشفاء بها حتى الأسباب الشرعية ، بل الأمر إلى مراد الله وحكمته.



الحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان والقرآن

الحمد لله على نعمة العلم والعلماء

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات


تجربتي مع شخصيتي الكمالية perfectionism


 بسم الله الرحمن الرحيم


 تجربتي مع الشخصية الكمالية (المثالية) perfectionism



لاحظت حملة غير موضوعية شوهت الشخصية الكمالية واعتبرتها مجرد معاناة تنتهي بالاحتراق والاكتئاب والقلق.


ضخموا السلبيات وخلطوا بينها وبين العصابية neuroticism وأغفلوا الإيجابيات وتجاهلوا الغالبية المستقرة من الكماليين


من الإيجابيات :


كثرة الإنجازات وجودتها مقارنة بغيرهم، العطاء، تطوير مهارات وأداء من يعمل معهم، التفوق كطالب والتفاني كموظف والنصح كصديق والمثال الإيجابي كرئيس، زوج/زوجة مهتم بشريكه وأب حريص وأم متفانية لتنشئة أطفال متميزين أدبا وصحة ومعيشة، يحفزون أنفسهم ذاتيا ويحفزون من حولهم . مصدر للإبداع والتطوير، وملجأ آمن عند الحاجة، أصحاب قيم ومبادئ يلتزمون بها وينشرونها ويتسامون على الماديات، مثقفون ويحسنون الكتابة والتحدث، أهل معروف ويقدرون صلة الرحم والإحسان، يحسبون العواقب ويرفضون المجازفات، يركزون على الأهداف ويدققون في التفاصيل فنرى بسببهم مشاريع متميزة .


من السلبيات

عدم قبول النتائج العادية ويطالبون أنفسهم ومن يرعونه بالتميز بشكل مرهق، ينتقدون أنفسهم بشدة عند الخطأ ويعتبرونه فشلا ويتضايقون من نقد الآخرين، يحملون أنفسهم أكثر مما يجب.


هذا لا يعني أنهم يعانون من العصابية (وهي خلل في رد الفعل النفسي بزيادة الغضب والقلق والخوف عن الطبيعي أو السلبية كالإحباط والعزلة وتضخيم الأخطاء والمخاطر، أو تقلب المزاج وعدم الاستقرار النفسي) وهي توجد في بعض الكماليين كما توجد في غيرهم.


وصف الكماليين بالتردد خطأ لأن صفتي التردد والحسم موجودة بالتساوي في كافة الأنماط الشخصية.


الجزء الأكبر من الكماليين مستقرون نفسيا


سلبيات الكمالية لا تصل لحد الاضطراب النفسي لدى الأغلبية، حالها حال سلبيات الأنماط الشخصية الأخرى.


الكمالية أحد عوامل الاكتئاب والقلق لكنها ليست العامل الرئيس أو الوحيد، وأكثر الكماليين لا يعانون هذين المرضين.


للأسف النصائح الموجههة للكماليين تقوم على "رفض" نمطهم وضرورة تغييره، وهذا خطأ لأنه لا يمكن تغيير نمط الإنسان ، وإنما الممكن تحسين تكيفه معه وتخفيف أثر سلبياته.


سبب اكتئابي الرئيس كان الاستعداد الوراثي واضطراب النوم المزمن . شخصيتي الكمالية أضافت المزيد من العبء بصعوبة تقبل المرض وتأخر استشارة الطبيب لكنها لم تكن السبب في أصل الاكتئاب.


العلاج السلوكي يستفيد منه بعض الكماليين لتخفيف آثار السلبيات وللتعامل مع مشاعر الاكتئاب والقلق لكنه لن يغير الشخصية!


ترديد "لا تكن كمالياً .. احذر المثالية..كن واقعيا..أنت بشر ولست ملاكا..طبيعي تخطئ وتفشل" سلاح ذو حدين لأنها تقول له: "طريقة تفكيرك خطأ وستقودك للفشل"، وبالتالي قد ينزعج منها وتضره لأنه "كمالي"، ولأنه كمالي فقد يفترض أن يتخلص من السلبيات بالكامل ، وعندما لا ينجح (وهو المتوقع) سيعتبره فشلاً وهكذا يدور في حلقة مفرغة !


ما الحل ؟

اطمئن عزيزي الكمالي:


- شخصيتك طبيعية ولا تحتاج علاج.

- تقبل كماليتك ولا ترفضها لأنك لا تستطيع تغييرها، وإيجابياتها كثيرة .

- مع تقدم العمر ستخف الكمالية (بعد الثلاثين أو الأربعين) وتخف مشاعر نقد الذات ، وهو أمر مثبت في الدراسات النفسية ومشاهد في الواقع ، ولاحظته في نفسي .

- شخصيتك كباقي ما أعطاك الله "اختبار" تشكر الله على الإيجابيات وتستعملها في الخير، وتصبر على السلبيات وتسأل الله الهداية والسداد

- استفد من العلاج السلوكي عند الحاجة لتخفيف الآثار وليس لتغيير نمطك .

- الاستبصار: إدراك التفكير الكمالي لحظة ظهوره ومداعبته بطرافة ؛ قل لنفسك "ها هي الأفكار الكمالية بدأت" عندما تلومها على خطأ، وكأنك تقول : أنا ألوم نفسي بشدة لأنني كمالي وليس لأن الخطأ يستحق كل هذا اللوم . وقل مبتسماً "أهلاً ! الكمالية شرفت" حينما تضع لنفسك هدفاً صعباً أو تقارنها بأشخاص مميزين جداً .  ارفق بنفسك وتلطف معها حين تلوم كماليتها .. "ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه".

- تشتيت الفكرة الكمالية المؤذية بدل الاسترسال معها، بالتركيز في عمل سهل مثل: اتصال بشخص مريح والتحدث في موضوع مختلف، لعبة مريحة مع طفل، كتابة تغريدة أو رسالة واتس بموضوع مختلف، رياضة خفيفة..

* تكرار الاستبصار والتشتيت مع كل فكرة كمالية يقلل آثارها السلبية مع الزمن وليس على الفور ، تحتاج صبر.

-  تحدث مع زملائك وأهلك عن أخطاء ارتكبتها في الماضي (تخبر نفسك بصوت عالي أنك بشر تخطئ، ولم تنته حياتك بتلك الأخطاء) ، كرر هذا الأمر بدون مبالغة ، وإنما إذا ناسبت الفرصة، واحفظ التعليقات التي تسمعها وتمنحك شعوراً إيجابياً لتستعملها مع نفسك مستقبلاً .

- ذكر نفسك بإيجابيات الكمالية كلما تضايقت منها.

- إذا ابتليت بالاكتئاب فإن من أعراضه استرجاع الأحداث المؤلمة والصفات السلبية لديك "ذاكرة سلبية"، وهذا قد يجعلك تشعر بأن كماليتك هي سبب الاكتئاب ، فتحاول التخلص من الكمالية لتتعافى من الاكتئاب فلا تستطيع. الأفضل لك أن تتعامل مع الاكتئاب كمرض مستقل أصابك وتتعالج عند الطبيب النفسي ، وتستفيد من العلاج المعرفي السلوكي لتصحيح مشاعرك السلبية وتخفيف آثار الكمالية.

- تأمل قوله سبحانه (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) وقوله ﷺ (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم) ، الله قسم لي الشخصية الكمالية اختبارا ، فلا أنسب التميز لقوتي ، بل أحمد الله أن سخرني لخدمة خلقه ، وأصبر على السلبيات ، وأتعلم من المعالجين السلوكيين كيفية تخفيف آثارها.

- استفد من قصص أكمل البشر عليهم الصلاة والسلام في القرآن الكريم ، حيث تعلموا من الخطأ والضعف والعتاب ثم مضوا قدما وبلغوا الرسالة : أبونا آدم الذي أذنب ثم تاب فاجتباه الله واصطفاه، وموسى الذي قتل نفسا، ويونس الذي ذهب عن قومه دون أن يستأذن ربه، وداود وسليمان..ثم إمامهم محمد ﷺ الذي عاتبه ربه في عدة مواضع .


وفقني الله وإياك

وصلى الله على نبينا محمد وآله


الأربعاء، 14 ديسمبر 2022

قصتي باختصار مع الاكتئاب والقلق والوساوس

بسم الله الرحمن الرحيم



متزوج وحاصل على الدكتوراه في تخصصي، ودخلي جيد ولله الحمد ،أشارك في العمل الخيري والأنشطة الأسرية ،أتحدث الإنجليزية وأقرأ في الأدب والثقافة الإسلامية..

كان كل شيء على ما يرام حتى بدأت أشعر بضيق الصدر وتكدر الخاطر دون سبب واضح.

قلت : لعلها هموم العمل والحياة مع الغفلة عن كثرة الذكر والوقوع في بعض الذنوب..

اشتدت الضيقة وصارت تغطي أكثر اليوم وقل شعوري بالإنجاز والسعادة، واضطرب نومي وكثرت الأحلام المزعجة.

رأيت حلما مزعجا ففسرته لنفسي أن أجلي قريب وقمت بتصفية حساباتي وتهيئة حالي للرحيل للآخرة .


شعرت بغربة شديدة بين الناس وفقدت كل مشاعر الأنس والسعادة والطموح والتفاؤل.

تسألني زوجتي عن الخطب فأعطيها إجابات عامة ولم أصرح لها بالمعاناة.

صرت أقلق كثيرا على مستقبل أولادي ومن سيرعاهم بعدي؟


ثم عرفت أني أعاني من اضطراب الاكتئاب والقلق، وأن تفسير رؤياي مجرد خسارة مالية محدودة.


وصف لي الطبيب دواء (سيروكسات) وأخبرني أن التحسن يحتاج أسبوعين ليظهر وسأعاني من بعض الأعراض الجانبية المؤقتة : نرفزة، صداع ، ثقل نوم.. لم أتحسن بعد شهر كامل، وعانيت من الأعراض الجانبية طول الفترة.


اشتدت الضيقة أكثر وصرت لا أتحمل البقاء في مكان العمل فأخرج منتصف الدوام رغما عني.


أمسح صدري بالماء البارد من شدة ما أشعر به.


فهمت لماذا ينتحر البعض مع شدة الاكتئاب، فالضيقة شديدة جداً والأمل مفقود تماماً ، ولا يوجد أي رغبة في الحياة وملذاتها، لكني بفضل الله لم أفكر في الانتحار ولم يخطر على بالي البتة لإيماني بالقضاء والقدر، ورجائي أن يكون كفارةً ورفعةً.

شرح لي الاستشاري درجة الاكتئاب الشديد وما يصاحبها من خواطر الموت وهنأني على تماسكي ووصف لي (سيبرالكس) وأعطاني إجازة لمدة شهر، أيضاً لم أشعر بتحسن البتة مدة الشهر وتأذيت من الأعراض الجانبية.


أخبرت زوجتي جزاها الله خيراً بحقيقة الأمر، فقامت بدعمي ومواساتي، وعرض علي بعض معارفي الرقية فشعرت ببعض التحسن.


رجعت للدوام واستمرت المعاناة بعد تحسن مؤقت مع الرقية، ثم وصف لي الاستشاري دوائين (ريميرون + إفيكسور) مع نصائح حول نمطي "المثالي" وطريقة تفكيري وتعديلات على النوم والأكل والرياضة.

تحسنت بشكل واضح وعادت لي مشاعر البهجة والاستمتاع بالعمل والعائلة وشعرت بالأمل بدل القلق حول المستقبل.


بعد شهرين انتكست أعراض الاكتئاب (وأنا ملتزم بالدواء) فنصحني الاستشاري بعدة تقنيات للتكيف مع الأعراض ، وأخبرني أن وضعي حساس لوجود تاريخ عائلي باضطراب ثنائي القطب ، فيخشى من زيادة الأدوية أن يتحول الاكتئاب إلى ثنائي القطب.


كان احتمال "العين" وارداً في ذهن من حولي ، وعرض علي بعض أقاربي الصالحين رقيةً مطولة فرقاني أحدهم أربعين يوماً متتالية ، ثم رقاني آخر ثلاثة أسابيع ، والأعراض بنفس المستوى ، ولله في ذلك حكمة ، وإذا رأيت شخصاً في منامي أخذت من أثر طعامه (خصوصاً نوى التمر) دون علمه حتى لا أثير الشكوك والضغائن ، وكررت ذلك عدة مرات ، ولم يتغير الحال .
 

قرأت كثيرا باللغتين العربية والإنجليزية عن الاكتئاب والقلق، وواصلت العمل وبعض الأنشطة لأن الانقطاع ضار ويسبب الإحباط ويزيد الاكتئاب.


 بدأت أشعر بالاضطراب عند أداء المهام الحساسة في العمل : رعشة_صداع ودوخة_ضعف عضلي وصعوبة حركة_تنميل في الشفتين واللسان والأطراف_نشوفة حلق، عرفت أنها أعراض جسمية للقلق ثم تكررت حتى مع المهام المعتادة فتضطرني للخروج من العمل بسبب الإنهاك، أذهب للمنزل فأستلقي ساعتين أو ثلاث حتى تهدأ ثم أعود للعمل.


وصف لي الاستشاري دواء(فالدوكسان) الذي توفر حديثا وقتها وتحسنت أعراض الاكتئاب بشكل ممتاز، لكن لم يتحسن القلق والأعراض الجسمية فأحالني للعلاج السلوكي.

أشعر بالارتياح أثناء جلسات العلاج المعرفي والسلوكي وخلال اليوم الذي تكون فيه الجلسة لكن الأعراض لم تتحسن مع تطبيقي للتمارين والتقنيات المطلوبة فأضاف لي المعالج حبوب (اندرال) ولم تنفع.

ثم انتكست أعراض الاكتئاب مع استمراري على (فالدوكسان).

اكتئابي صار مزمناً ، ويسمونه دايسثيميا ( dysthymia ) ، حالة من الاكتئاب المتوسط الشدة لكنه طويل الأجل ، يتخلله فترات من التحسن والنشاط ، وفترات من الانتكاسات الشديدة . الانتكاسات الشديدة تتكرر بكثرة بسبب أعراض القلق وعجزي عن إنجاز الكثير مما كنت أنجزه قبل المرض . 


تأثرت جودة وظيفتي وعجزت فعليا عن العمل ، بدأت بالتفكير في التقاعد ، ليس هروبا وإنما للعجز ووضوح الاضطراب والأخطاء في العمل، ورجاء أن تتحسن الأعراض إذا ابتعدت عن ضغط العمل.

تعاونت معي إدارة العمل جزاهم الله خيرا ففرغوني لمهام سهلة جدا ولا تتأثر بغيابي حتى أتم الخدمة وأستحق التقاعد. ولعل الله يحدث أمرا. تمت المدة والأعراض كما هي فتقاعدت .

سألت فقيها عن حكم راتبي وتقصيري في العمل فطمأنني أني معذور.


أنا أحفظ سورة البقرة فصرت أقرأها يوميا لكثرة من ينصح بذلك وأنفث بها على صدري.

تحسنت الأعراض بشكل واضح شهرين ثم انتكست مع أني مواصل على القراءة، وصرت أشعر بصعوبة عند قراءتها فتوقفت ورجعت إلى قراءة القرآن عموما كالمعتاد.


بعد التقاعد قل دخلي لكنه يكفيني وأسرتي، وأشغلت نفسي بالبرامج العلمية الشرعية وزيادة حفظ القرآن الكريم مع المحافظة على أذكار الصباح والمساء ورعاية الأسرة.

لكن مع الغلاء ارتبك وضعي المادي وزاد الضغط النفسي، وتوتر تعاملي مع أسرتي بسبب المصروفات وبحثت عن عمل إضافي فساعدني ذلك جزئيا.


 استمرت أعراض الاكتئاب والقلق وأنا أحاول التكيف معها بدون أدوية ، أعزي نفسي كلما اشتدت الأعراض بقوله سبحانه "سيجعل الله بعد عسر يسرا" وعندما يخطر ببالي متى؟ أجيب نفسي بقوله سبحانه "لكل أجل كتاب".


ذات يوم (بين المغرب والعشاء) أحسست باضطراب في جوفي  ومشاعر غريبة  لم أشعر بها من قبل، خرجت لصلاة العشاء وفي الطريق أصابني خفقان شديد وكتمة نفس ودوخة وشعرت أنني أموت فعلياً ! واصلت السير إلى المسجد لعل وفاتي تكون فيه بدلا من الشارع، خفت الأعراض قبيل دخول المسجد وعرفت أنها نوبة "هلع" .


تكررت النوبة عدة مرات بدرجات متفاوتة واشتدت أعراض التوتر والقلق، اضطرب نومي أكثر، وكلما أغمضت جفني تسلطت علي مشاعر خوف غريبة وأرى وجوه حيوانات مفترسة مكشرة عن أنيابها، أكمل أذكار النوم، والمشاعر الغريبة تتكرر، وكلما غفوت ارتج جسمي فأفقت، فأذكر الله وأحمده على البلاء وأدعوه ثم أغمض جفني فتعود الصور والمشاعر المرعبة ثم أغفو وأرتج، وهكذا عدة مرات حتى يستسلم جسمي للنوم  .الرجفة التي تصيبني أول ما أغمض جفني يسمونها ( hypnic jerk ) ، تحصل للبعض وتكثر مع الاكتئاب والقلق . زادت المعاناة أكثر حينما بدأت تباغتني وساوس عقدية لا إرادية عن الخالق سبحانه بمجرد ما أستيقظ من النوم!!

أقوم من الفراش وأنا مرهق ومحبط .. خائف على ديني وعقلي.. محزون على فقدان وظيفتي وراتبي الجيد وشهاداتي المرموقة .. عاجز عن العمل والقيام بأعباء أسرتي وتربية أولادي ..وساوس عقدية.. ضاقت بي الدنيا ... (عذراً ..ذرفت عيني وأنا أكتب هذا السطر ، فقد كانت أشد فترة مرت علي في حياتي).


طمأنني الاستشاري أن الوساوس من مضاعفات الاكتئاب والقلق الشديد ، ووصف لي دواء (لوسترال) وأخبرني أن أفضل وسيلة للتغلب على الوساوس تجاهلها وعدم مناقشتها وستزول بإذن الله.


تحسنت بحمد الله مع (لوسترال) تحسناً كبيراً ، وكان فرجاً بكل ما تعنيه الكلمة . استخدمت الدواء سنة ونصف والوضع العام مستقر لكن يتخلله فترات إحباط وقلق وتظهر الوساوس ونوبات الفزع بشكل خفيف إذا اشتد التوتر، وتلك الفترات لا تستجيب لزيادة جرعة الدواء، وإنما تذهب وتعود خصوصاً مع الضغوط المالية.


تكيفت مع الوضع الجديد ، ثم توقفت عن الدواء ولم ألاحظ زيادة في الأعراض ولله الحمد. بعد سنة ونصف من توقفي عن الدواء شعرت بنوبة قلق ووساوس واكتئاب متوسطة فاستعملته مدة شهر تقريباً وكان سريع المفعول في تخفيفها ولله الحمد . يتعود جسمي عليه ويضعف مفعوله فأتركه ثم أستخدمه إذا اشتدت الأعراض مرة أخرى ويكون جسمي استعاد انتفاعه به لفترة ثم أتركه.


خلال السنتين الماضيتين استقرت حالتي ولله الحمد وخفت الأعراض كثيرا، وأستمتع بجو الأسرة والفعاليات المنزلية كما أشارك في المناسبات الاجتماعية بشكل أفضل.


تزوج أبنائي وتحسن دخلهم المادي ، وصرت جداً، وتركت العمل الإضافي،  واستقر وضع الأسرة.


مطمئن ولله الحمد لأني :

✅ مؤمن بالله وقضائه ، وأن تأجيل الشفاء (مع بذلي للأسباب الشرعية والطبية) لحكمة في صالحي 

✅ فهمت مرضي وأتكيف قدر استطاعتي مع الأعراض

✅ أستمتع كثيرا مع أسرتي

✅ أتعامل مع مشاعر الاكتئاب إذا ظهرت بالانشغال بعمل هادئ مريح أو الحديث المؤنس مع الأسرة

✅ نوبات الهلع تكاد تكون انقطعت، وإذا شعرت بها قلت :"خلها تعدي ثواني وتنتهي"

✅ أمارس الرياضة ولو على فترات متقطعة

✅ خفت الوساوس كثيراً، وأتجاهلها إذا ظهرت، وأقنع نفسي أنها عرض من أعراض القلق والاكتئاب وليست مشكلة عقدية بحمد الله

✅ زوجتي والكبار من أولادي يعرفون مرضي ويدعمونني، ونتبادل الحب والاحترام والتشاور

✅ أتممت حفظ القرآن بحمد الله

✅ أدعو الله دائما لوالدي وأهلي والمؤمنين والمؤمنات

✅ إذا اشتدت الأعراض في بعض الأحيان أكثرت من هذا الدعاء :

يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، يا من بيده مفاتيح الفرج فرج عني ما أنا فيه واحفظ علي ديني وعقلي وأهلي ومالي . في السجود ومواطن الإجابة حتى تخف ولله الحمد.

✅ لا لليأس "فيه فرصة وفيه وقت"



أخطائي :

❌ ذنوب ماضية وحاضرة كلما اقترفتها أصابني الإحباط والخوف من سوء الخاتمة بسببها، لكني أتذكر رحمة الله الواسعة وأبادر للاستغفار حتى تهدأ نفسي

❌ تأخرت في إخبار زوجتي بمعاناتي، لأنها حين عرفت صارت وأولادي الكبار خير معين لي بفضل الله

❌ تفكيري المثالي ونقدي لنفسي بشدة عند الخطأ



 💚 حالياً وضعي العام ممتاز نفسياً واجتماعياً

أجلس في المسجد بعد الفجر إلى طلوع الشمس وأراجع حفظ القرآن .

أحرص على أذكار الصباح والمساء، والأذكار المنصوص على فضلها عموماً ، وأكرر التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والحوقلة والصلاة على النبي والاستغفار مئة مرة يومياً .

أتصدق كل فجر بعد الصلاة بعشرة ريالات لصندوق أسرتنا الكبيرة عبر الجوال.

أحرص على الفعاليات الترفيهية المنزلية مع أبنائي وبناتي.

أحب كشتات البر وأحرص عليها كل فترة.

أشتري حاجيات المنزل بنفسي

أتحاشى الضغوط النفسية والنقاشات الفكرية والسياسية ومتابعة الأخبار

أقرأ في المجالات التي أحبها

دشنت هذه المدونة وحساب تويتر @depressedsatis1  راجياً من الله أن يتقبلهما علماً ينتفع به أهل المعاناة ومن يرعاهم .



🌹الحمدلله الذي بنعمته تتم الصالحات🌹

تجربتي في حفظ القرآن الكريم

  الحمد لله رب العالمين سألني البعض كيف حفظت القرآن وكيف أراجعه ؟ بدأت في المرحلة الثانوية ضمن نشاط المدرسة فحفظت السور من الكهف إلى نهاية ا...